Wednesday 1 November 2017

متن عمرو موسى "3": الصوبة




لولا أنني وعدت القارئ أن يكون هذا المقال هو الأخير، حول مذكرات السيد عمرو موسى، لتجاوز عدد المقالات إلى عشرة أو ربما أكثر، لأن المذكرات وللأمانة حافلة بما يستحق التوقف عنده والتعليق عليه، اتفاقا واختلافا، إضافة لحتمية التعرض لبعض ما كُتب عنها بأقلام بعضها يسكب فكرا وثقافة ورأيا محترما، وبعضها يتقيأ صديدا وينز مخاطا، كأنه مصاب بالدوسنتاريا.

وفي البداية هناك سؤال قد يراه البعض جوهريا، وهو متى يكون الفصل بين الذاتي وبين الموضوعي عند إبداء الرأي، وهل يجوز التعرض لأمور تبدو ذاتية شخصية تتصل بالنشأة والتكوين الاجتماعي أم لا يجوز؟ وفي ظني أن الإجابة ليست سهلة لأنه طالما أن النص الذي هو موضوع المناقشة احتوى على ما يتصل اتصالا وثيقا بالجانب الذاتي الشخصي، فإن الوارد هو مناقشة ما جاء في النص، حيث إنه معلوم أن النشأة والتكوين الاجتماعي ومعه التكوين الثقافي، هي عوامل مؤثرة تأثيرا مباشرا وقويا في شخصية الإنسان ومسلكه واختياراته وقراراته وطموحاته، وهنا أزعم أن ما كتبه السيد موسى حول نشأته وأسرته وتكوينه الاجتماعي ومساره حتى التخرج من الجامعة، هو المفتاح الرئيسي لشخصيته ومسلكه وطموحاته، حيث ظل أسير "السرايا" وما فيها ومن فيها، ربما إلى الآن وقد تجاوز الثمانين.. منحه الله الصحة ومزيدا من طول العمر!

لم يذكر حفيد السرايا جملة مفيدة واحدة عن المحيط الاجتماعي من حول قصر جده لأمه السيد حسين الهرميل حامل لقب البكوية، ولم يقدم ولو هامشا في ذيل إحدى الصفحات عن "محلة مرحوم" وأهلها ولا عن علاقة ساكني القصر بهم، اللهم إلا بضع كلمات عن محفظ القرآن الكريم.. لأن محلة مرحوم وأصلها محلة المحروم ترتبط باسم آخر هو "الجوهرية" المتاخمة لها وهناك سيدي "الجوهري" الوالي الصالح الذي يظن الناس أنه مُرسل للرياح والخيرات، ودائما في لحظات الأزمات يرفعون صوت الرجاء "ابعت يا جوهري"!! وهي قرية تقع شمال طنطا بعدة كيلو مترات بسيطة، ومنها تنطلق زمر بائعات الفطير واللبن والجبن القريش والزبدة والجلة "أقراص الروث الجافة المعدة كوقود للكوانين والأفران" إلى طنطا، وفيها أمهر ترزية الجلاليب البلدي والعباءات، ولم تكن فيها ملكيات زراعية كبيرة مثلما كان في مناطق أخرى في الدلتا خاصة شمالها وفي الصعيد!.. وهنا تبدو "السرايا"– القصر- وكأنها صوبة مغلقة احتوت الحفيد الذي خطب في الجماهير الوفدية وهو ابن ست سنوات!!، والصراحة أنني تذكرت الراحل الساخر الكبير العم محمود السعدني وقد كان موسى صديقا له، وهو يمارس تعليقاته اللاذعة ومنها تعليقه على العبارة التي وصف بها إعلاميون التلفزيون المصري "أنه ولد عملاقا"، إذ قال السعدني بعد الواجب الإسكندراني: "ولد عملاقا يعني ولد مشوها مختل التكوين، لأن الطبيعي هو رضيع ثم فطيم وبعدها صبي.. وهلم جرا.."، ولا أدري حقيقة هل خطب موسى ابن السادسة خطبة سياسية معتبرة، أم أنه ردد نشيدا وهتف باسم النحاس والوفد مثلما يحدث كثيرا في منازل البعض إذا دخل الطفل في مجلس الضيوف، ويطلب إليه ذووه أن يسمع أعمامه الجالسين الأبجدية بالإنجليزية أو آيات قصيرة من القرآن أو نشيدا حفظه في المدرسة.

في السرايا لا توجد طبلية بالقطع.. بل مائدة طعام "سفرة"، والفرق بين الاثنتين ينعكس على ابن آدم كما سأوضح، أو بالأحرى كما أوضح صاحب المذكرات.. فالطبلية مستديرة يتجاور فيها الآكلون كتفا بكتف وفخذا بفخذ، وأحيانا لكثرة العدد ولأنهم متساوون فإن الجلوس يكون على ركبة ونصف، وذراع واحدة هي التي تمتد بالأصابع غالبا وبالملعقة أحيانا لتصل إلى "الأنجر"، وبالتالي فلا إحساس بالمريسة ولا بالتميز على الطبلية التي لا تخلق طموحا للجلوس على رأسها، أما الطاولة أو الترابيزة المستطيلة فلها شأن آخر، ظهر جليا عندما كان موسى يجلس علي ذيلها البعيد عن رأسها وهو ملحق صغير، بينما على الرأس يجلس فتحي الديب، والملحق الصغير يتمتم بينه وبين نفسه: متى أجلس على رأسها؟، وقد ظل يسعى مرحلة بعد مرحلة نحو الرأس إلى أن تمتم علنا وهو في كهولته بعد الوزارة وبعد أمانة الجامعة العربية: "أريد أن أكون رئيسا لمصر.." يعني أكبر رأس دفعة واحدة، ومن أسف أنه جاء الرابع على ما أتذكر، وقد حزن لذلك فيما أظن، لأنه اعتمد على أنه عمرو موسى وبس، أي فقط، بلا برنامج واضح ولا فكرة جديدة!

وفي السرايا تاهت صورة الأب مدرس الجامعة الذي لم يقل لنا الابن شيئا عن تخصصه العلمي، لأنه ذكر أنه كان في كلية الآداب وفقط، وأهمية ذكر تخصص الأب تكمن في أنه كثيرا ما ينعكس على تكوين وشخصية وثقافة وتوجهات الابن الذي لم يفكر في الآداب، كما كان أبوه، وإنما اتجه للحقوق وهو اتجاه نشأ في ظني من تأثره بزعامات الوفد التي كان معظم أفرادها حقوقيين، وهنا أذكر أنني في حوار هاتفي مع صاحب المذكرات، حيث تكرم وطلبني ليثني على مقالي الأول، قلت له إن ما كتبه حول إصراره على الالتحاق بالحقوق وحواره مع الشيخ أبي زهرة، جعلني أفكر في لماذا كان الإصرار الماضي على الحقوق، واكتشفت– وربما أكون مخطئا– أن الحقوق هي أقرب المجالات للتعليم الساري آنذاك، وهو الأزهر، لأن كليهما يتصل اتصالا مباشرا وحتميا بالنصوص.. النص القرآني والنبوي في الأزهر، ومن بعده النص التراثي للصحابة والتابعين ومؤسسي المذاهب ومؤلفي المتون وكتبة الحواشي، والنص الدستوري والقانوني واللائحي في الحقوق، ومن بعده أحكام النقض وأحكام الاستئناف النهائية، وآراء فقهاء القانون من الأساطين في كل فرع، كالسنهوري وسلطان وبدر والبدراوي وأبي زهرة وخلاف وغيرهم.. ويفرض الارتباط بالنص مهارات بعينها تدور حول روح النص وفلسفته وصرفه إلى ظاهره أو تأويله، وحول الالتفاف على النص والنفاذ من ثغرات وقع فيها المشرع وهلم جرا..، ولذلك فقد لمع الحقوقيون في ظل الاحتلال البريطاني وصاروا قادة للحركة الوطنية، لأن المطلوب أمام قواعد الاحتلال ودباباته وأسلحته وسطوته هو المرافعة للمطالبة بحقوق الوطن في الاستقلال والدستور وما إلى ذلك، أما فترات ما بعد الاستقلال والاتجاه للتنمية والبناء فقد تقدمها التقنيون من المهندسين والعلميين ومن على غرارهم.

ولقد تحدث صاحب المذكرات عن جده لأمه، فذكرني بما كان يتداوله أهلنا في ريف الغربية حول من صاهر العمدة فتزوج أخته وأنجب منها كان ابنه يرد على من يسألونه: ابن من أنت يا حبيبي؟ فيرد: "أنا خالي العمدة!!" ولقد بحثت بسرعة عن أصل الهرميل فأحالني علي باشا مبارك إلى الجبرتي، ولم أجد ما يعد مادة وافية سوى أن أحمد الهرميل ظهر في فترة محمد علي باشا الكبير، أما العائلتان الكبيرتان اللتان تردد اسماهما مع الهرميل، فهما الخادم والبرادعي، الأولى لأن اللقب جاء من خدمة ضريح سيدي أحمد البدوي، ومن ثم صندوق النذور بالغ الغنى الذي من كراماته جاءت أملاك الخادم، والثانية لأن اللقب جاء من أهم صناعة كانت رائجة قبل ظهور وسائل النقل الآلية – القطارات والسيارات – وهي صناعة برادع الحمير وسروج الخيل، ولا أريد أن أستطرد حتى لا يشدني السياق إلى ما سبق وكتبته منذ عدة سنين حول محمد البرادعي قريب وزميل عمرو موسى، وهو أحد من رشحوا له السيدة الفاضلة التي اقترن بها، وكيف أنه تجرأ على تزوير التاريخ القريب الموثق عندما زعم أن أباه المحامي الذي كان نقيبا للمحامين، كان من معارضي عبد الناصر، وعندها نشرت جزءا من المضابط الموثقة للمؤتمر الشعبي الذي أقر الميثاق 1962 وفيه اشتط البرادعي الأب في نفاق النظام، فطالب بأن تتحول نقابة المحامين إلى نقابة عمالية!!

تقترب مساحة نشر المقال من النفاد، وللأسف فإن لديّ أضعاف أضعاف ما كتبته.. ولكني وعدت أن أختم، وبرجاء ألا يفسد ما كتبته الود بين السيد عمرو موسى وبيني.. أختتم تلك العجالة!
                          

نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 1 نوفمبر 2017.

No comments:

Post a Comment