Wednesday 25 October 2017

متن عمرو موسى (2): حقائق غائبة




بمعايير الأولوية المطلقة فإن ما يمسك بخناق الوطن من أحداث جسام تصعد فيها أرواح الشهداء، وتسيل دماء وتتمزق أجساد رجال الشرطة والقوات المسلحة يحتم الاهتمام أولًا بما يحدث، ولكن أحيانًا يجد المرء نفسه أمام واجب لا يجوز التهاون فيه، خاصة أنه لا يتصل بأمر ذاتي بل يتصل بتاريخ الأمة ووعي الأجيال، وقد ثبت أن تلك الأحداث الجسام ما كان لها أن تحدث لولا أن غياب الوعي أو تشوهه وزيفه لدى من يرتكبون جرائمها غياب عميق، ومن ثم فإن الأمر عندي متصل أو دائرة لا تنفصل أقواسها، واليوم أستكمل ما كنت وعدت به حول ملاحظات أسميتها "حواشٍ على متن عمرو موسى"، وأبدأ بتوضيح أمرين التبس فهمهما لدى البعض، الأول هو أنني عندما سقت المثل الشعبي حول "العايبة التي لا ترازيها ولا ترازيك..."، فقد عنيت كاتبًا بعينه عمد بطريقة فجة متهافتة إلى التعريض بالدكتورة هدى عبد الناصر، وعندما كتبت عن أننا أمام "عبقرية" فقد عنيت أن صاحب المذكرات، أو بالأصح "الذكريات"، وقع في شرك عشق ذاته بما يستدعي تدخل أهل الاختصاص من علماء التحليل والطب النفسيين!

لقد عدت إلى مصادر مكتوبة، وأخرى شفهية عاصرت الحقبة التي ارتبط فيها السيد موسى بالخارجية منذ البداية حتى تركها، والتزمت- كتلميذ في دراسة التاريخ- بما تعلمته من مناهج بحثية، ووجدت أن ثمة مغالطات تحمل شبهة التعمد في رواية الوزير الأسبق، وسأسوق أمورًا على سبيل المثال وليس الحصر، إذ لديّ الكثير.. فقد نشر السيد موسى صورة لوفد مصر في الهند إبان حكم الرئيس عبد الناصر والسيدة أنديرا غاندي، وهي صورة تضم الرئيس والمشير عامر وزكريا محيي الدين وأنور السادات والشافعي وصلاح نصر، وهذا ما كتبه تحتها، وهي تضم أيضًا صدقي سليمان ومحمود رياض وعبد المجيد فريد وصلاح الشاهد، وهي أسماء لم يشر إليها، والحقيقة أنها صورة لوفد مصر في مؤتمر آخر، لأن الوفد الذي كان في الهند ضم الرئيس ناصر وأنور السادات ومحمود رياض وصلاح نصر، وكان مع رياض بعض معاونيه كأشرف غربال وعبد الرؤوف الريدي وعمرو موسى، وكان من بذل الجهد في صياغة البيان مع المسؤولين الهنود هو الريدي! وبالمناسبة لم يجر العرف السياسي والدبلوماسي على إضفاء صفة "عضو الوفد" على كل من سافروا أو وجدوا في الاجتماعات، وإلا كان متعينًا ذكر أسماء السكرتارية والتشريفاتية وغيرهم نزولا إلى السائقين والطباخين!

ثم إن السيد موسى تحدث عن مسألة الديون المصرية للولايات المتحدة، ولم يتكرم بذكر الحقيقة التي تقول إن من كان وراء السعي لإسقاطها هو سفير مصر في واشنطن عبد الرؤوف الريدي، الذي بذل جهدًا في إقناع الرئيس مبارك بأهمية الطرق على الحديد وهو ساخن، وكان الرئيس مبارك مترددًا حتى اطمأن من سفيره إلى أن الأمريكان لن يغضبوا، وبعدها بذل سفير مصر في واشنطن جهدا مضنيا مع الكونجرس لإتمام الأمر.. وقد جاءت تفاصيل ذلك كاملة في مذكرات السفير عبد الرؤوف الريدي "رحلة العمر.. مصر وأمريكا.. معارك الحرب والسلام" الفصل 18 من ص 473 إلى ص 493، وأدعو كل باحث عن الحقيقة أن يطالع التفاصيل شديدة الأهمية في ذلك الكتاب.

ولأن الشيء بالشيء يذكر فإن صاحب الكتاب "مذكرات كانت أم ذكريات" لا يتورع طيلة كتابه كلما جاءته الفرصة أن يستخدم لفظًا في كلامه- سواء كان منه أم منسوبًا لغيره كالرئيس مبارك مثلًا- من شأنه أن يطعن في غيره أو يحمل معنى ملتبسًا، وربما كان مرد ذلك هو- وكما سأفصل فيما بعد- سمة شخصية عمرو موسى التي تنضح في الكتاب وأجمع عليها غالبية من اقتربوا منه أو عملوا معه "الذات المتضخمة" لدرجة مفزعة مما يدفعه لنفي الآخر، خاصة إذا كان الآخر منافسًا أو مشهودًا له بالكفاءة! كأسامة الباز وأحمد ماهر وعبد الرؤوف الريدي وغيرهم، وعلى سبيل المثال فقد كتب في صفحة 590 حول إصرار مبارك على "فورية تغيير الريدي" بما يحمل معنى ملتبسًا بالفعل قد يتضمن أن الريدي فعل أمرًا شائنًا، بالدرجة نفسها التي يتضمن فيها غموضا لم يفصح عنه مبارك، بينما كان الريدي يستعد فعليًا لمغادرة واشنطن مع بداية عام 1992، لأنه يعرف بلوغه السن القانونية للإحالة على المعاش في يوليو من العام نفسه، لأنه من مواليد 2 يوليو 1932، ولذلك بدأ زياراته ولقاءاته "التوديعية" للإدارة الأمريكية والكونجرس، والمفارقة التي قد تشكك في رواية موسى أن الرئيس الذي أصر على فورية إنهاء عمل الريدي هو نفسه الذي طلب إلى الريدي أن يتصل به عند عودته لمصر، وقد حدث ودعاه الرئيس هو وزوجته لمقابلته في برج العرب، وقضى الريدي وزوجته حوالي ساعتين مع مبارك وزوجته!

أما ما اتصل بالباز وأحمد ماهر كمثالين للآخر الذي يعمد السيد موسى لغمزه فهو واضح في الكتاب، وقد تكفل الدكتور مصطفى الفقي والدكتور فاروق الباز برد غيبة أسامة، أما أحمد ماهر فلم يجد حتى الآن من يرد غيبته، خاصة كلام مبارك عنه ووصفه إياه بـ"الزومبجي"، وليتني أجد وقتًا وأملك جهدًا لرد غيبة الراحلين الذين لم يكن من الفروسية أن يلمزهم موسى بالطريقة التي وردت.

نحن إذن أمام بعض الوقائع التي لم تكن صحيحة مائة بالمائة، بعضها رواه موسى من زاويته الذاتية فقدم بعضًا يسيرًا من الحقيقة، وبعضها انعدمت منه الحقيقة تمامًا، ولقد كتب السيد موسى عما أسماه "ملاحقة البرنامج النووي الإسرائيلي"، وذكر تفاصيل مهمة عن الجهود التي بذلها والخارجية المصرية في اتجاه إخضاع "الدولة الصهيونية"- هذا المسمى من عندي وليس للسيد موسى- لمعاهدة حظر الانتشار النووي، ولكنه لم يعط للفشل في ذلك حقه في التركيز، لأن الذي حدث هو قيام الولايات المتحدة الأمريكية بتغيير مدة سريان معاهدة حظر الانتشار النووي من أن تكون قابلة للمراجعة من الأطراف الموقعة عليها كل خمس سنوات إلى أن تكون سارية إلى ما لا نهاية.

ولو أن المرء يقرأ الأمور بطريقة كاتب المذكرات لبعض الأحداث والشخصيات، ولو أن المرء أيضًا يستخدم قفشاته اللفظية لقال له "نشنت يا فالح.. هذه هي نتيجة ملاحقاتك".. وللتذكير فقط فإن "نشنت يا فالح"، هي العبارة التي قالها استيفان روستي لمحمد توفيق عندما أطلق عليه الأخير الرصاص وهما يطاردان خصومهما! وأستأذنكم أن يكون للحواشي بقية أخيرة في مقال مقبل.
                        

نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 25 أكتوبر 2017.

No comments:

Post a Comment