Wednesday 29 March 2017

عظيمات مصر!




نعم.. بكيت.. واسترسلت في موجة من النهنهة التي لا تقتصر على سكب الدموع من المآقي بل يرتج منها البدن وتتلاحق الأنفاس حتى ينفطر كل الكيان!

نعم مارست إنسانيتي وضعفي.. وسرحت في مراجعة طويلة ودقيقة وتفصيلية مع ذاتي وأفكاري ومعتقداتي وسلوكي، ونعم أيضًا أحسست بالضآلة أمامهن وهن شامخات واضحات وطنيات واعيات عارفات حدود الصح وقيعان الغلط!

نعم.. كنت أمام التليفزيون أشاهد أمهات وزوجات وبنات.. أي ثكالى وأرامل ويتيمات الشهداء منذ اليمن وسبعة وستين والاستنزاف وأكتوبر والإرهاب.. وأرقب السيسي ووزير الدفاع ووزير الداخلية والقاعة، فأدركت أن هذا الوطن سيبقى ما بقيت السماوات والأرض، طالما فيه نساء من هذا الطراز!

وفيما كنت أمارس إنسانيتي وضعفي بالنهنهة فكرت في الفصيلة التي يفترض أنني أنتمي إليها.. فصيلة الكلام بكل جماعاتها من مفكرين ومثقفين ومؤلفين وكتاب وصحفيين ومحترفي ندوات ومؤتمرات ووقفات للاحتجاج على السلالم في المثلث إياه، الممتدة أضلاعه بين شوارع "ثروت وعدلي و26 يوليو ورمسيس"! ووجدت أن جرامًا من تراب شبشب الأم الثكلى التي لديها شهيد وبقي اثنان في الشرطة والجيش، والابنة التي تيتمت ولم تتجاوز الخمس سنوات، يرجح أطنانًا من بغبغات مجمل تلك الفصيلة!

سيقال على الفور هذا أسلوب شعبوي ديماجوجي رخيض.. وهذا إحساس متكرس لدى صاحبه بالدونية والتفاهة، ولا يجوز له أن يعممه على غيره، وسيقال غير ذلك، خاصة باللغة التي لا أجيدها، لغة أئمة النشطاء، ومع ذلك ورغمه سأبقى عند موقفي لأسائل نفسي أولا..

كيف تركنا أسرة.. ومثلها مئات إن لم يكن آلاف الأسر بغير العناية الواجبة خمسة عقود.. أي خمسين سنة.. ثم كيف صمدت هذه الأسرة المكونة من أرملة شابة لم تتجاوز الخامسة والعشرين من عمرها وطفلتين إحداهما لم تصل الخامسة، والثانية في اللفة ما تزال، والأب ضابط شاب لم يتجاوز السابعة والعشرين.. وقيل لهم إنه مفقود؟!

كيف أدركت هذه الابنة التي ما كان لها أن تكون بهذه القوة ورباطة الجأش إلا بوجود أم عظيمة بكل المعايير اسمتها الابنة بالشهيد الحي.. أدركت أن العريش وسيناء ليستا فقط ترابًا وطنيًا ولكنهما مثوى شهداء، منهم أبوها البطل الذي قضى نحبه هو وكتيبته بعدما أمر المجرم الشيطان ابن الشياطين شارون بدفنهم أحياء؟!

ولذا كيف يتسنى لأي داعر عاهر من عبدة الأرباح والأموال وخدمهم من المنظرين والمقعرين أن يعانق الصهاينة وأن يمضي إليهم ويأتوا إليه وأن تصل الدعارة والعهر ببعضهم أن يباهوا بعلاقاتهم الصهيونية؟!

لقد وجهت الابنة البطلة بنت الأبطال الأفذاذ خطابها للرئيس وطالبته بأن تبقى العريش وسيناء لمصر وألا يفرط الوطن فيهما بحال من الأحوال، ورد هو بصوت خفيض في درجته مدوٍ رهيب في مدلوله بأن لا تفريط في العريش! ومع ذلك نجد المأفونين يطالبون أو يلمحون بالتصالح مع أصل البلاء وجوهر الوباء الإخوان المسلمين، وكأن شيئا لم يكن؟!

أمام كلمات الابنة.. ابنة الشهيد الذي استشهد يوم عشرة يونيو 1967 بعدما أمر شارون بدفن الكتيبة كلها أحياء لا بد مرة أخرى من فتح الملف.. ليس ملف ما حدث في الأيام إياها.. ولكن ملف الشهداء ممن اعتبروا متوفين أثناء الأحداث مباشرة أو ممن وصفوهم بالمفقودين لتبقى أسرهم أسيرة معاناة لا يعلم مداها إلا هم بعد الله سبحانه وتعالى!

إنني أذكر حال عمي عبد الحكيم الجمال سنة 1967، وقد عشت معه ومع أسرته ما حدث إثر فقد ابنه الأكبر وتحويشة عمره المقدم مهندس فؤاد عبد الحكيم الجمال، إذ أبلغوا أنه مفقود وبقينا فترة طويلة نسأل وتأتينا أخبار وحكايات وكيف أنه مع رجاله في منطقة "المغارة".. ثم تبين أنه استشهد بعد سنوات من التعامل باعتباره مفقودًا.. وقد ترك زوجة وثلاثة أطفال.. فيما الذين راكموا الملايين بعد الانتصار هم من يشارك العدو الصهيوني في كل مجال!

إنني أولًا أحيي رئيس الجمهورية والقوات المسلحة أن تم تذكر وتكريم الذين طويت ملفاتهم منذ عقود خمسة، وثانيا أطالب بما طالبت به ابنة ذلك الشهيد العظيم بألا تمضي خمسون أخرى لتكريم بقية الشهداء وتعويض أسرهم بما يحقق ولو واحدًا على مليون مما يستحقون! أما بليونيرات الحروب والانفتاح ومنظروهم الاستراتيجيون فقليل من الحياء إذا كانت القدرة على الحياء ما زالت موجودة!

ثم إن حديث الأم التي وقفت وكانت كلماتها نبع حكمة متدفقة بأسرع وأقوى من كل المدافع والحناجر، فقد جاء في بعض منه موجهًا للأجيال الشابة الطالعة كي يعرفوا طبيعة ومضمون الانتماء للدراسة في الكليات العسكرية وبعده الانتماء لصفوف العاملين في الجيش والشرطة.. كيف هو الانضباط والالتزام والسلوك السوي الرصين، وكيف هو الإصرار على العلم والتعلم وزيادة الخبرة، وكيف هو الانتماء للوطن وحمل الأرواح على الأكف فداءً له!

لم نكن أمام شاشة تليفزيون تنقل مناسبة احتفالية، لكننا كنا أمام ساحة من ساحات الشرف الوطني والسمو الإنساني وحالة من حالات التجلي الوجداني تحوم في عليائه أرواح الذين هم أحياء عند ربهم يرزقون!

واذا كان لي أن أختم هذه السطور فإنني أستميح المشرفين على بريد الأهرام عذرًا أن يتكرموا ويفصحوا عن مصير بعض ما تم تقديمه لحالة محددة هي "يتيمات الشهيد السائق" الذي استشهد مع رجال القضاء في سيناء، وكنت ومعي آخرون ننتظر معرفة ما تم غير أن الشهور طالت وآن لنا أن نسأل.. وفي ذلك تفاصيل مستعد للحديث فيها.
                               

نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 30 مارس 2017.

No comments:

Post a Comment