Thursday 28 July 2016

حتمية مقاومة "السوس"




بطريقة القدماء أقول: حدثني من أثق في صدق روايته ورجاحة عقله وسلامة مقصده وعمق غيرته على وطنه فأكد لي أن عمل الخارجية المصرية هو الآن بلا أي مضمون رسالي، ولا أهداف واضحة محددة المهام والمراحل الزمنية، ويصدق ذلك على الدبلوماسيين وعلى الذين يعملون في السفارات والبعثات من التابعين لجهات أخرى كالمخابرات والداخلية والتعليم والثقافة والتجارة والوعظ والإرشاد! وإذا كان ثمة استثناء فقد أشار محدثي إلى أنهم تلقوا ذات زمن قريب تكليفا محددا هو العمل الجاد لعودة مصر إلى الاتحاد الإفريقي واسترداد فاعليتها فيه.. وقد تم الأمر على خير وجه، لأن الهدف كان محددا والمهمة واضحة.

وفي الجلسة ذاتها حدثني من قد يبالغ بدرجة أو أخرى مستندا إلى وقائع تبدو فردية، ولكنه يراها منهجا لدى كثيرين من الذين قدر لمصر أن يكونوا ممثليها في الخارج، وكان مما ذكره أن سفيرا ظل طوال مدة خدمته خارج مصر يعمل في أوروبا الغربية والولايات المتحدة ثم نقل إلى إفريقيا فنقم نقمة بلا حدود وترجم نقمته إلى سلوكيات بالغة الوضاعة، كان منها مثلا أنه يأمر بترك أجهزة التكييف مفتوحة ليل نهار أثناء أيام العطلات الأسبوعية كي يعود ويجد مكتبه باردا.. وأن آخر ربّى طيور البط في حمام السباحة.. وأن ثالثا كان يتاجر في سلالات الكلاب التي تقيم في السفارة وتتناسل ويأتي من يريد من أهل البلد الأجنبي ومن غيرهم ليشتري السلالات الكلبية المتميزة!

وأن رابعا حرص على ألا ينفق دولارا واحدا من مرتبه، وحدث أن دعي لعشاء في سفارة عربية فأكل وشبع ثم اتجه لزوجة السفير المضيف ليطلب منها تجهيز بعض الأطباق "المشكلة" ليأخذها معه لابنه الذي لم يحضر العشاء، فما كان من صاحبة الدار إلا أن عنفته!

وفي السياق ذاته.. سياق احتمال المبالغة أو التصيد، سمعت عن بنود اللوائح التي تمنع الاستئجار التمليكي.. بمعنى أنه قد تستأجر السفارة مبنى أو مكانا بمبلغ ما، وهو المبلغ نفسه الذي يمكن أن يتحول إلى أقساط لشراء المكان.. أو أن إيجار مبنى السفارة يتجاوز ثمن شراء مبنى أكثر اتساعا وحداثة وراحة لأنه ممنوع التمليك.. أو أن السفارة التي تحتاج لدهان "بياض" مبناها.. يعني محتاجين إلى "نقاشين" تذهب بعثة من هيئة الأبنية بالوزارة لتعاين وتجري مناقصة ويتقدم من يتقدم ليتم إقرار مقاولة النقاشة، ويكون المبلغ الذي سيدفع متجاوزا لثمن مبنى آخر جديد تماما! ثم حدث ولا حرج عن موظفين إداريين- إناثا وذكورا- لا يتجاوز مؤهل بعضهم الدبلوم المتوسط ويكون من مهامهم التعامل مع علماء مصريين مرموقين من أساتذة الجامعة والخبراء الحاصلين على الدكتوراه وما فوقها- يعني تقدموا بأبحاث أوصلتهم للأستاذية- ثم يتعامل مع صاحب "الدبلون" بمهانة بالغة! وحدث عن مدرسين مبتعثين من الأزهر مثلا يدرسون لطلاب لا يعرفون سوى الفرنسية لغة للعلم والمدرس لا يعرف الفرنسية لكنها الواسطة أو الدور في البعثة، وكيف أن بعض سفاراتنا في إفريقيا شهدت شبه مظاهرات لطلاب من أهل البلاد يرفضون فيها المدرسين من هذه الشاكلة!

كان الحديث مع النموذجين اللذين تفضلا فتحدثا بغير حرج قد بدأ بمناقشة الحملة الوطنية للتبرع ضمن "صبح على مصر بجنيه"، وقلت إنني من الملتزمين غالب الوقت وليس كله بهذه الصباحية، وجاءني الرد السريع بسؤال استنكاري: ولماذا لا يصبح المسؤولون من البعثات الدبلوماسية بمعناها الواسع على مصر بجزء من ملايين الدولارات التي تنفق بغير هدف ولا تخطيط؟!

ومن تلك العبارة الاستفهامية الاستنكارية امتد الحوار على النحو الذي بدأته، وأثيرت قضايا أراها تحتمل النقاش الجاد ومنها ما سبق وبدأت به حول المضمون الرسالي للعمل في كل المجالات خاصة مجال التمثيل الدبلوماسي لمصر في الخارج، ومعه الأهداف والخطط التي ترسم للسياسة الخارجية حتى المستوى الميكروسكوبي، إذ لا يعقل ولا يقبل أن توجد سفارة كبيرة أو صغيرة أو حتى تمثيل ضئيل ومحدود دون أن يعرف من يعملون فيه ما هي مهمتهم تحديدا وما هي فلسفة السياسة الخارجية المصرية في ذلك المكان من العالم، وصولا إلى فلسفتها العامة الشاملة في هذه المرحلة من مراحل السياسة الدولية والأوضاع العالمية!

وقد يقال إن الأهداف واضحة، وعلى رأسها أننا لا نتدخل في شؤون غيرنا ولا نريد زعامة ولا دورا يفوق طاقتنا، وهذا جيد إلا أن تعريف الأشياء بالنفي ليس تعريفا، إذ لا يمكن أن يسألنا أحد عن الماء فنقول إنه ليس نارا ولا جمادا وهلم جرا.. وفيما هو شائع ومتداول بل ربما مؤكد فإن فلسفة السياسة الخارجية وأهدافها هي من مهام رئاسة الدولة وليس أي جهة أخرى!

إنني أعلم أنه من الصعب إعادة تأهيل من وصلوا لدرجة سفير بالخارجية، لكي يدركوا أن ثمة دورا رساليا لكل مسؤول وصل إلى هذا المستوى ينعكس على تفكيره ومسلكه ومهامه الوظيفية.. ابتداء من أن يدرك حجم وعمق مسؤولية تمثيل بلد بوزن مصر بحضارتها وثقافتها وتاريخها ودورها في العالم، وليس انتهاء بتوفير كل "سحتوت" أو "جنيه" كي لا ينفق في غير موضعه، ولكنه ليس من الصعب وضع المسؤول المناسب في المكان والزمان المناسبين، وليس من الصعب محاسبة كل فرد على أداء مهمته أداء يفي بمتطلباتها.

ثم إنه ليس حراما أن تناقش قضية عدد سفاراتنا وبعثاتنا وممثلياتنا في الخارج وتحديد ما يمكن اختصاره أو توفيره لأن دولا كثيرة لا تعاني ما نعانيه من فقر في الموارد- خاصة العملات الصعبة- عملت على تخفيض بعثاتها وسعت لتوفير الموارد، وتقوم سفارة واحدة بتمثيلها في عدة دول متجاورة، وهذا السعي لا يتصادم أبدا مع ضرورة أن يكون لمصر وجود فاعل ومؤثر في الساحة الخارجية حتى لا يملأ غيرنا مكاننا، وفي ظني أنه إذا توافرت الروح الرسالية والفلسفة والمهام الواضحة المحددة فإن مسؤولا يتمتع بذلك يغني عن مائة لا وجود لذلك عندهم.. وقد جربنا من قبل وربما إلى الآن كيف تبدد الرصيد المصري الثمين في إفريقيا مثلا وملأ غيرنا الفراغ الذي تركناه وكان وما زال لدينا سفارات بغير حصر منتشرة في القارة السمراء.. وقس على ذلك أماكن أخرى!

إنني لا أريد أن أستطرد في ذكر حالات بشعة تثير الأسى والقرف معا جسدت تبادل المصالح بين مسؤول في جهاز ما وأسرته وبين مسؤول في وزارة ما، بحيث لا تصل التقارير التي يجب أن تصل عن أداء أو عن بلاوي الوضع في مكان ما مقابل أن يوضع ابن أو زوج بنت فلان في سفارة درجة ممتازة، يعني بعيدا عن حرارة الجو ورطوبته! ويظل المحروس يتنقل في نعيم التميز طوال ما ظهيره الأسري مسؤولا!

أكتب كل ما سبق من أرضية الانتماء الوطني، ومن موقف لا يتزحزح عن المساندة والدعم والإخلاص لمن يمثل ثورة 30 يونيو، وقبلها وبعدها الثوابت الوطنية التي لا تحتمل مساومة ولا تبديلا.

سنستمر "نصبح" على المحروسة، ليس بالفلوس فقط وإنما بالوعي والعمل وبذل الجهد وخوض معارك الإصلاح، والثبات في الحرب ضد الإرهاب، ولن نصمت عن "السوس" الذي قد يكون مختفيا فيما هو ينخر قواعد الوطن فيما الوطن مشغول بتلك المعارك وهذه الحرب.
                      

نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 28 يوليو 2016.

No comments:

Post a Comment