Wednesday 18 May 2016

كلوفيس مقصود..الأشجار تموت واقفة

 
كلوفيس مقصود

القاعدة أن الجديد يولد من القديم، أما المشكلة المعضلة فهي إذا كان القديم أكثر أصالة وتجددا وفهما وقدرة على المواجهة من الجديد!

علمني صديقي كامل زهيري أن هناك من يوظفون الأجيال مثلما كان هناك من وظف الأموال، ولذلك فلست من المشايعين لفكرة صراع الأجيال، فرب جيل كتب عن "مستقبل الثقافة" وعن مشاكل المشهد المصري "من بعيد" عند مطلع القرن الفائت، وجاء ما كتبه أكثر وعيا وفهما وتجددا من معظم ما جاء بعده، وهنا أتحدث عن طه حسين مثلا!

لقد تلقيت نبأ رحيل المفكر والصحفي والدبلوماسي العربي كلوفيس مقصود عن عمر ناهز تسعين عاما، ودفن في الولايات المتحدة، وأشهد مع كثيرين أهم مني وأكثر دراية وثقافة، أن كلوفيس انتسب لشريحة- وليس جيلا- من المثقفين العرب الذين اعتقدوا في القومية العربية والوحدة، وشغفوا جديا بدور مصر الجوهري والمحوري في التكوين العربي على مر حقب التاريخ، الذي هو ماضٍ وحاضر ومستقبل.

التقيت الراحل لأول مرة منذ أكثر من ثلاثين عاما في الشارقة بالإمارات العربية المتحدة، بعد أن كنت أقرأ ما يكتبه وأعجب لاسمه الذي لم أستطع نطقه في البداية عندما كان يكتب في الأهرام من 1967 إلى 1974.. ثم توطدت العلاقة عبر الأعوام، وكنا نلتقي مرة على الأقل كل سنة في المؤتمر السنوي لدار الخليج للصحافة، وذات مرة تصادف أن تجاورنا على مقاعد الطائرة من مصر إلى الولايات المتحدة، وفي الساعات الطوال انفتحت نوافذ أطللنا منها على مساراتنا الفكرية والسياسية بل والعاطفية، وعرفت- حتى صرت مشدوها- مدى تأججه العاطفي وأمله وحلمه في أن يقترن بإنسانة أعرفها، بعد وفاة زوجته هالة سلام.

بالعمر والمرحلة ينتمي كلوفيس مقصود إلى القديم القومي العروبي ذي التوجه الاشتراكي، وبالحقيقة كان كلوفيس- وبقي إلى أن رحل- مفكرا إنسانيا عريقا في ثقافته، مطلعا على كل جديد، ذا عقلية ناقدة واعية، نفذت إلى صميم الثقافة العالمية بتنوعاتها الثرية من الهند شرقا إلى الولايات المتحدة وأوروبا غربا، وعرف- بدون عقد نفسية أو حساسية دونية ولا استعلاء شوفيني- المفاصل الضعيفة في الوعي والمسلك الأوروبي والأمريكي تجاه قضايا أمته، وبدلا من أن يستسلم ويتوحد بالمعتدي الذي يعيش في كنفه عقودا، أو أن ينسحب إلى قوقعة الاستعلاء؛ الأجوف انغمس في الحوار واشتبك إيجابيا بالفكر والمحاضرات وإنشاء المراكز البحثية لترشيد الأداء على الناحيتين، وكان أن أنشأ مركز الجنوب بالجامعة الأمريكية بواشنطن.

ولقد تلقيت على بريدي الإلكتروني رسالة حولها لي السيد سامي شرف كتبها الدكتور يحيى الشاعر عن قطوف من حياة كلوفيس، وأعدت نشرها على الفيس بوك، وأستقي منها في هذا المقال بعض الفقرات نصا أو مضمونا.. وهذا من باب الأمانة الصحفية التي لا تنفصل عن مثيلتها العلمية.

فكلوفيس مسيحي ماروني من أم أرثوذكسية ونشأ في بيئة درزية وتزوج مسلمة سنية، وفي الوقت نفسه ينتمي للفكر القومي التقدمي وانتسب في فترة من حياته إلى الحزب التقدمي الاشتراكي بقيادة كمال جنبلاط، صديقه الذي لم تمنع الصداقة ولا العمل السياسي تحت قيادته من الاختلاف معه، عندما رأى جنبلاط في قرار عبد الناصر تأميم قناة السويس خطوة متسرعة، بينما رأى كلوفيس أنها خطوة هائلة في النضال المصري والعربي ضد الاستعمار!

وهذا التكوين "الكلوفيسي" إذا جازت النسبة يذكرني بصديق آخر هو الكاتب والمفكر إلياس سحاب الشقيق الأكبر لسليم المايسترو ولفكتور وسمير، حيث الأصل الفلسطيني والجنسية والحياة اللبنانية والمذهب الماروني والانتماء القومي الناصري والاهتمام لدرجة الدراسة والتخصص للموسيقى العربية!

تعرف كلوفيس على مؤسسي البعث ميشيل عفلق وصلاح البيطار وأكرم الحوراني، حيث كان الأولان يرتادان مقهى مسعود في باب إدريس وكان الحوراني يرتاد باتسيري سويس مقابل الكاتدرائية الكبوشية في باب إدريس أيضا، وأراد كلوفيس أن ينتقل من الحزب الاشتراكي إلى حزب البعث، فنصحه عفلق والبيطار أن يبقى في التقدمي الاشتراكي بقيادة جنبلاط لتعميق انتمائه العربي، وبعدها ترك كلوفيس التقدمي الاشتراكي ولم يلتحق بالبعث وصار من أشد وأبرز مؤيدي ومناصري الرئيس جمال عبد الناصر، وهنا يروي الدكتور يحيى الشاعر بعضا من المواقف بين المفكر وبين الرئيس، إذ كتب الأول خطاب احتجاج ضد اعتقالات الإخوان المسلمين في مصر في الخمسينيات ثم فوجئ بدعوة من الوزير كمال رفعت الذي كان يترأس مجلس إدارة أخبار اليوم لزيارة مصر، ووجد نفسه بصحبة كمال رفعت أحد أبرز الضباط الأحرار وقائد المقاومة الشعبية المسلحة ضد القاعدة البريطانية قبل وأثناء مفاوضات الجلاء، في زيارة لمنزل الرئيس عبد الناصر بمنشية البكري، وهنا قال له الرئيس: "حضرتك عامل شيخ عروبة واسمك كلافيس.. ما تغير اسمك يا خويا"، فرد كلوفيس: "يا سيادة الرئيس اقترح لي اسما بديلا"، فقال الرئيس: "قحطان مثلا"، ويرد كلوفيس بلهجته اللبنانية وقدرته الرائعة على القفشة: "ما في عندك شي اسم بين بين"!

وعلى ذكر حكاية الاسم سمعت وغيري مرات عديدة القصة الطريفة التي دارت بين كلوفيس والشاعر العربي السوري عمر أبي ريشة الذي كان سفيرا لبلاده في الهند، وذهب لاستقبال كلوفيس في مطار دلهي عندما عين الأخير سفيرا للجامعة العربية هناك.. يحكي كلوفيس أن الأستاذ عمر أخذه بالسيارة وانطلقا في جولة في دلهي وهو يوطن نفسه أنه سيسمع قصائد الشاعر الذي تربى على قصائده وإذا بالسفير يتوقف أمام منطقة سكنية محاطة بسور "كومبوند"، ويدخل متقدما كلوفيس ليصل إلى مجلس يجلس فيه رجل هندي أقرب إلى هيئة المهراجا، وتقدم عمر أبو ريشة متحدثا بصوت مجلجل: "يا سمو الأمير يشرفني أن أقدم لك ولأتباعك المسلمين الهنود السفير الدكتور محمد كلوفيس الدين مقصود ممثل الجامعة العربية بالهند! ويستكمل كلوفيس: "عندها ارتجفت رعبا وتفككت مفاصلي، وفور أن انصرفنا عاتبت السفير عمر: "هيك أستاذ عمر.. شو كان يحصل لي لو أدرك هؤلاء الناس أنني مسيحي وأنتحل اسم النبي محمد"؟! ويرد عمر أبو ريشة مغتاظا: "شو أخو كذا، ألم تجد الجامعة العربية سواك مسيحيا مارونيا لترسله ليهتم بالمسلمين في الهند"!

ولد كلوفيس في مدينة برستو بولاية أوكلاهوما الأمريكية في 17/02/1926 وأخذ اسمه من قديس مسيحي كاثوليكي، وبالمناسبة اكتشفت أثناء تنقيبي في تاريخ بلاد الغال الرومانية عن نشأة فرنسا أن الذي غزا بلاد الغال وغير اسمها إلى اسم قبيلته الجرمانية الأصل "الفرانكس" هو الملك كلوفيس الأول.. وفي هذا قصة سبق أن كتبتها معتمدا على أحداث تاريخية حقيقية، وتزوج كلوفيس من هالة سلام سليلة آل سلام اللبنانية عام 1974، ومعلوم أن آل سلام من نخبة النخبة الإسلامية السنية.

ومن طرائف كلوفيس أيضا واقعته مع أم كلثوم عندما زارته في منزله بالقاهرة وقد اصطحبها إليه صديقهما إحسان عبد القدوس إذ قالت الست: "تشرفنا يا سي كلوفيس.. ده اسمك الفني أمال اسمك الحقيقي إيه"؟! وأيضا عندما كان في زيارة مسلمي ميانمار في بورما وسأله سلطانهم: من أي القبائل العربية أنت؟!" فأجاب كلوفيس بسرعة بديهة "من قبيلة بني مقصود"!

رحل كلوفيس ولم يهزمه الموت كما لم تهزمه- مع صديقه الذي استكتبه للأهرام محمد حسنين هيكل- النكسة ولا مخططات التفتيت والحروب الأهلية.. واصل هيكل وكلوفيس ومن هم من التركيبة نفسها أكثر أصالة وإبداعا وتقدما ومواكبة لكل ما هو جديد من كثيرين أقل عمرا سحقهم الإحساس بالدونية فتوحدوا بالرأسمال الغربي المتوحش ورهنوا خلاص أوطانهم على مزيد من الاستسلام له.
                               
نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 19 مايو 2016

No comments:

Post a Comment