Thursday 7 May 2015

المقهى.. والهوية الثقافية المصرية

 
مقهى ريش في وسط البلد بالقاهرة

بنظر البعض قد تبدو هذه السطور خارج المقرر السياسى والفكرى الذى يتبارى من يكتبون فى استظهاره وتلاوته وتجويده، ولكنى أظنها من صميم المتن الحضارى والثقافى المصرى الذى يتسع ضمن أبوابه وفصوله لوصلات الردح فى الحارة الشعبية القديمة وفنون فرش الملاية وكيد العدا، دون خجل من التجاور مع أناشيد إخناتون ومتون الأهرام وإبداعات أمحتب وقصائد ابن الفارض واجتهادات الليث ابن سعد ومربعات ابن عروس، وأشعار شوقى وحافظ وبيرم وفؤاد حداد والصلاحين عبدالصبور وجاهين، ومنحوتات مختار ووشاحى ولوحات محمود سعيد وبيكار، وجاذبية وموسيقى سيد درويش والسنباطى وزكريا أحمد وعبدالوهاب والموجى والطويل، وغناء أم كلثوم وشادية وعبدالحليم وفريد.. وعشرات الأبواب الأخرى التى ربما لا تتسع لها صفحات هذا العدد من الأهرام!

لقد هرولت لألحق بصديقى مجدى عبد الملاك فى مشوار انتقاله، ووقفت مع الواقفين من الأصدقاء نساء ورجالا نتابع فى صمت وخشوع صوت المرتل الشماس يتلو إصحاحات العهد الجديد، فيما القسيس يحرك المبخرة المدلاة بيمينه ينطلق منها البخور مميز الرائحة، وفى لحظة معينة ينتقل الميكروفون من يد الشماس إلى يد القس ليرتل بنفسه إصحاحات بعينها.. بالعربية والقبطية!

كان مجدى صاحب ريش صديق السنوات الطوال كاتما لأسرار عشرات المثقفين والمبدعين وحارسا للصرح الذى أنشئ عام 1908 وعبر الزمن صار الحضن القوى الدفيء للثوار من 1919 إلى 2013 وللأدباء والفنانين والصحفيين والكتاب من مختلف المشارب والتوجهات، وبعد أن أودعناه حضن الأم.. أرض مصر، وجلست منفردا إذا بالشريط يبدأ فى الدوران.. وكانت بدايته أين ستوضع صورة مجدى بين صور الراحلين المعلقة على جدران المقهى، ومنهم من كنت صديقا وقريبا للغاية منه، وقفز إلى ذهنى مباشرة أنه ربما لن تعلق صورة مجدى لأن هذا الصرح التاريخى مهدد بالإغلاق والتحول إلى محل أحذية أو وجبات سريعة من أصول أمريكية، وهو ما قاومه مجدى سنوات طويلة ورفض أى إغراء ومنها إغراءات بالملايين!، وعندئذ أجدنى مطالبا أمام الانتماء للهوية المصرية الفذة بأن أشير للاقتراح الذى قدمه الفنان محمود الحدينى وبلوره الزميل حمدى رزق أثناء الكلمات فى عزاء مجدي، وهو تشكيل لجنة من بعض الشخصيات للسعى فى تحويل مقهى ريش إلى أثر لا يجوز هدمه ولا تحويله وكفالة استمراره فى دوره الثقافى المتميز.. وأن أضم صوتى للنداء الذى قدمه بعض من شباب مصر، فى مقدمتهم المهندسة منار أحمد التى أطلقت نداء على الفيس بوك للحفاظ على المكان، وبدأت التأكيدات والمبادرات المؤيدة تتوالى حتى صار العدد بالمئات.. الأمر الذى يعنى أن وجدان الوطن مازال ينبض بالحياة!

ولم تمض ساعات على وداع مجدى حتى تلقيت دعوة للمشاركة فى إحياء ذكرى الساخر المبدع العم محمود السعدني، لأجده يطل بكل سطوته التى لا يمكن وصف مضمونها، إلا أنها سطوة وفقط، ويطل معه أستاذى وصديقى العم كامل زهيري!، وأعيش معهما لحظة سرحان طويلة لم يقطعها شيء!

كان عم محمود له مقهاه التاريخى.. قهوة عبدالله فى الجيزة.. حيث كان يجلس مع زكريا الحجاوى وعبدالقادر القط وأنور المعداوى ومحمد رضا وعبدالحميد قطامش.. ومن يقرأ ما كتبه السعدنى الكبير لأن السعادنة فيهم جيل صلاح وجيل أكرم بعد الكبير عن قهوة عبدالله ونوادرها ومناقشاتها، يعرف أن المحروسة عرفت «المقهى» كركيزة أساسية من ركائز حياتها الثقافية والاجتماعية.

إذ عرفت مصر مقاهى للحرف يجلس عليها أهل مهنة أو كار بعينه، فهذا مقهى للآلاتية وذاك للفواعلية وثالث للنجارين ورابع للكومبارس وخامس للخرس فاقدى القدرة على الكلام وهلم جرا.. وعرفت مقاهى للأرستقراطية لا يجلس عليها إلى كبار التجار وكبار ملاك الأراضى الزراعية، وتحمل أسماء «البورصة» و«التجارية»، وعرفت مقاهى اتخذها الثوار مقرات لدعواتهم، وبرز اسم مقهى «متاتيا» الذى بقى حتى السبعينيات وكان يجلس فيه الأفغانى ومحمد عبده وسعد زغلول وأخوه فتحى وقاسم أمين وغيرهم.. وأفخر أننى جلست فيه بصحبة أستاذى الراحل الدكتور أحمد عبد الرحيم مصطفى،حيث كان يجمع بعضا من تلاميذه المقربين ويأخذهم معه إلى متاتيا أحيانا وإلى كافيتريا فندق وندسور الذى صحبته فيها أيضا ومعنا الراحل الأستاذ الدكتور محمد أنيس وآخرون من أساتذة التاريخ وطلاب الدكتوراه والماجستير، وكنت أختلس الفول السودانى لأستاذى عبد الرحيم مصطفى، لأن ذراعه القصيرة لم تكن تصل بسهولة إلى الصحن!

وكان لكامل زهيرى مقهاه أيضا وكم حكى لى عن «ليزا» صاحبة المقهى والبار الذى كان قريبا من مقر مجلة «روز اليوسف»، وكان يذهب بصحبة زملائه وفى مقدمتهم الشاعر والكاتب أحمد عبدالمعطى حجازى الذى حسب رواية العم كامل يدخل أولا ويمارس المريسة ويأمر بالطلبات، وعند الانصراف يصدر أمره «حاسب يا كامل»!!.. ويضحك الأستاذ كامل وهو يحكى عن مهارة بنات الهوى المصريات اللاتى كان بعضهن يتواجدن بالمقهى وكان جنود القوات الدولية بعد حرب السويس ينزلون لقضاء إجازاتهم ويذهب بعضهم إلى «بار ليزا»، وتعمد الفتيات لاختيار من ستنتهى إجازته مبكرا ويتم التفاوض وتسلم المقدم وتفلت الفتاة به من الباب الآخر.. ويعلو صوت الخواجة، فإذا بصاحبة المقهى تنادى بأعلى صوتها: «شوية مزيكا يا بركات»، حيث كان بركات هو عازف البيانو بالمقهى، وكانت تتعمد أن يعلو صوت الموسيقى ليغطى على احتجاجات الخواجات المضحوك عليهم!

ولقد كان لكامل الشناوى مقره فى بعض كافيتريات فنادق كبرى كسميراميس وهليتون النيل، وكانت له طقوسه حيث كانت سهرته تنتهى قبل شروق الشمس، لأنه كما كان محمود السعدنى يتصور أن عزرائيل يغلب عليه المجيء ليلا، وبسبب ذلك كانا ينتظران انتهاء الليل ليبدآ النوم.

وأعود إلى ريش آخر معاقل لجوء أهل الأدب والفن والفكر الذى أبقى عليه مجدى عبد الملاك حتى آخر رمق، وهو مهدد الآن بالإغلاق أو التحويل إلى نشاط آخر كما سبق وأشرت، لأناشد وزيرى الثقافة والآثار وكل المسؤولين الحريصين على تاريخ مصر وهويتها الثقافية أن يحموا هذا الصرح.
                                          
نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 7 مايو 2015

No comments:

Post a Comment