Thursday 28 August 2014

الذين لم يصبروا.. لكنهم نالوا

 
لوحة الدارسون للودفيج دويتش

كنت تذهب إلى ندوات أحد أهم مراكز الدراسات فى بيروت فتجد قائمة المشاركين هى نفسها منذ بدأت الندوات.. وكنت تذهب إلى مؤتمرات القوى السياسية فى طرابلس أو بغداد فتصافح الوجوه نفسها، التى تعودت أن تصافحها، وتعودت هى أن تراك.. ومازلت تذهب إلى مؤتمرات القوميين أو لقاءات القوميين والإسلاميين والماركسيين فلا يتغير الأمر، حتى بدا الحال حال احتراف فى وجه من الوجوه، وحال إفلاس فى الوجه الآخر!.. وهكذا الأمر نراه يتكرر فى بعض جوانب حياتنا الثقافية داخل مصر، وخاصة فى الوزارة والهيئات والمجالس التابعة لها، كما لو أننا نراقب «كوتشينة» يتم «تفنيطها» مع كل دور ولكن الأوراق هى هى!، والعجيب فى الظاهرة أنها غير قابلة للانقضاء أو الاضمحلال، مثلما هى الظواهر الاجتماعية، لأن «الاحتراف.. والإفلاس» ينتجان أجيالا متعاقبة تحمل الجينات نفسها، وتعرف أصول اللعبة وتجيد فنون التملق والتسلق والخنق، ولديها سماكة جلد فشر التماسيح وفرس النهر، الذى لا أعرف لماذا اشتهر عندنا باسم سيد قشطة!

وأذكر أننى تطوعت بعد إلحاح من أحد الزملاء ذوى المواقع المهمة فى نقابة الصحفيين آنذاك كى أدير ندوة توقعوا أنها ستكون مشتعلة صاخبة، إذا لم يتم إحكام السيطرة عليها، وكان موضوعها يدور حول «باب العزب» فى القلعة، وكيف يتم تطويره، وربما إقامة فندق هناك، وذهبت لأجد القاعة شبه ممتلئة والوجوه محتقنة والأكمام مشمرة، وجلست على المنصة مع أساتذة الآثار المعارضين والمؤيدين، ووضعت قاعدة للنقاش تكفل السلامة للجميع، وهى أننى لن أقاطع أحدًا، ولن أحدد وقتًا، شرط أن يلتزم الجميع بالعفة فى الألفاظ والاقتصاد فى العبارات، وألا يكرر أحد ما سبق وقيل إلى آخره.. ومضى الحوار سلسًا ساخنًا، وكان أكثره سخونة هو تعليقات الزميلة، التى أصبحت صديقة عزيزة، الراحلة المرحومة بهيرة مختار. ثم فوجئت بمن يقف فى آخر صف بالقاعة ويطلب الكلمة لينشئ ملحمة مدح عريض عميق سامق فى الأستاذ الفنان فاروق حسنى وزير الثقافة.. ثم اختصنى المتحدث بعبارة قال فيها: «إنه يعلم أن فلانًا رئيس الجلسة سيزعل، إلا أننى أؤكد أنه لا عصر يوليو ولا ثروت عكاشة ولا غيره قدموا لمصر مثلما قدمه الوزير حسني، ويكفيه ويكفينا أننا لم نحبس فى عهده، كما حدث على عهد ثروت عكاشة..»، وعلت الهمهمات فى القاعة، ولكن صاحبنا المعروف بطلاقته وسلاطته استمر.. واكتشفت فيما بعد أن صراعًا على رئاسة تحرير جريدة تصدرها الوزارة كان محتدمًا، وكان المرحوم رجاء النقاش ومعه الصديق طلعت الشايب قد جهزا للإصدار إلى أن اختطفت المطبوعة، وأوكل أمرها للأستاذ الذى رأى أن ثروت عكاشة لا يرقى بحال إلى فاروق حسني!.. وظل الموقع فى حوزته بعد أن تغير الوزير وجاء وزراء وتكرروا ومضوا وهو راسخ!

ولست بصدد إصدار أحكام لتقييم وزراء الثقافة، ومن منهم كان مبدعًا منجزًا، ومن الذى كان موظفًا على باب الله، كما أننى لست بصدد ادعاء الحكمة وامتلاك الرؤية لأهديهما للوزير الحالي، وإنما وكما أسلفت أحاول أن أسترعى الانتباه العام لظاهرة «الاحتراف الإفلاس» أو الاحتراف الإفلاسي، وربما الإفلاس الاحترافى التى تسرى فى الهياكل الإشرافية والوظيفية فى مجال الثقافة، الذى أظنه هو عمود الخيمة فى المرحلة المقبلة، كما كان فى مراحل سابقة عاشتها المحروسة.

ولقد يترامى الآن إلى أسماع كل من له صلة بشئون الوطن، ومنها الشأن الثقافي، كيف يدور التكالب العلنى والخفى على المواقع الحاكمة فى هيئات الوزارة، ولأن الوزير الحالى يجمع فى شخصه تركيبة فريدة، من حيث هو أكاديمى معروف، وكاتب مشهور، وخبير بدهاليز وأنفاق وشقوق العلاقات الوظيفية بالوزارة، حيث كان من كبار موظفيها مرحلة طويلة، ثم وزيرًا لمحة خاطفة، وكان ومازال له مريدون من تلاميذه فى بعض مرافقها ولأنه كل ذلك وأكثر فهو قادر على إدارة اللعبة وعلى تفنيط الورق دون أن يمكن أحدًا من أن يظل فى «القش» ومصادرة الآخرين طوال الوقت!

ولا أريد أن أستطرد فى سرد عشرات المشاهد التى تجلى فيها احتدام التكالب، وكيف أن شبابًا واعدًا موهوبًا ومنهم صحفيون أعرفهم وخبرتهم جيدًا، لم يجدوا سبيلاً لمناصب فى الهيئات أو فى الصحافة، إلا بعد أن أجادوا فك الزنار وأبدوا الاستعداد لفكه حتى النهاية.. وبالفعل فإنهم بدلاً من أن يقال «صبروا.. ونالوا»، صار الأكثر دقة أنهم «فكوا.. ونالوا»، وعندئذ يتساءل من بقيت لديهم بقية خوف لدرجة الفزع على مستقبل الصراع بين مشروع النهوض والتجديد والفهم والإبداع وبين مشروع التخلف والركود والحفظ والاستظهار، هل يمكن إرساء أسس وبناء المشروع الأول بتلك العينة من الذين «يفكون.. وينالون»؟! هل ستبقى الوظائف العامة الإشرافية فى الجهة المنوط بها أن تكون قاطرة النهوض الوطنى العام حكرًا على البطانة التى يتصادف أن الوزير يريدها، بحيث جاءت فترة كان معظم شاغلى تلك الوظائف منتدبين من أقسام اللغة العربية وبعض اللغات فى جامعة عين شمس وندرة من غيرها.

إن هناك من شاءت أقدارهم أن ترحمهم من تحكم «الميري» فى عقولهم وطموحاتهم، وربما من العدل ألا يسقطوا معاييرهم على آخرين هم جزء من نسيج مصرى عام ظل يقدس «الميري»، حتى إن «تمرغ فى ترابه»، ولكن العدل أيضًا يقتضى أن يتحرر الوطن من الظاهرة برمتها فتبقى وزارة الثقافة قائمة تؤدى دورها، ولكن لا تترك لها المهمة كلها، بمعنى أن تبدأ قوى الأمة وتبادر بالمشاركة الفاعلة فى مشروع النهوض والتجديد..

وكما أن الحروب فى حياة الأمم من الأهمية والمصيرية بحيث لا يمكن ترك شأنها للجنرالات وحدهم، فإن الثقافة تزيد على الحروب أهمية ومصيرية، لا يمكن تركها للوزراء وكبار الموظفين و«المشتاقين» وحدهم.. إنها عمل رسالى فى الأساس، ولا يمكن أن تجد رسولاً يعمل بعقلية وسلوك المرابى.
                                  

نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 28 أغسطس 2014

No comments:

Post a Comment