Thursday 5 December 2013

كسر الدائرة الجهنمية

 
معبد حتشبسوت في الأقصر

وماذا بعد؟‏!‏ ماذا بعد أن كشفنا الجذور الفكرية والفقهية لهذا التيار الذي يرفع المصاحف علي رماح الصراع السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي يجري في مصر والمنطقة بل أيضا، بدرجة أو أخري، عالمنا المعاصر؟!

وماذا بعد أن تحركت الكتل الجماهيرية بالملايين لتصحيح المسار التاريخي لحركة التغيير في مصر، بعدما استطاع الإخوان وهم العمود الفقري لذلك التيار أن يقفزوا إلي الحكم وكان من حظ الوطن أن يقعوا في أخطاء وخطايا جسيمة كانت أحد أسباب ذلك التحرك الجماهيري الهائل؟ وماذا بعد أن كشف الناس في معظمهم زيف الادعاء الإخواني والسلفي بتمثيل الدين الصحيح، وبأن شعار الإسلام هو الحل يحوي حلا لكل المشكلات الكبيرة والصغيرة وبأسرع من لمح البصر؟ ثم ماذا بعد أن وجدت مصر ظهيرا عربيا قويا من أشقاء مخلصين هالهم المصير المؤلم الذي تنحدر إليه المحروسة، وهم يدركون أنها إذا سقطت في الهاوية فلن يبقي أحد منهم ثابتا في مكانه، بل إن المؤشرات أضحت حقائق مخيفة بعد انكشاف خلايا الإخوان المبثوثة في الإمارات والسعودية وغيرهما؟

وكذلك ماذا بعد أن حدث تحول في الموقفين الأمريكي والأوروبي وبدت علامات تفهم لما جري في مصر باعتباره ثورة شعبية حقيقية علي حكم الإخوان وتحالفهم، وأن الجيش المصري وقيادته استجابا لرغبة الشعب وإرادته، ولم يكن الأمر انقلابا عسكريا بحال من الأحوال! وأخيرا ماذا بعد أن اقتربت الفترة الانتقالية من الانتهاء، وبعد أن أصبح المجال مفتوحا أمام القوي السياسية من خارج تيار التأسلم السياسي لتمارس عملها دون معوقات جوهرية؟! أسئلة عديدة يجب أن نفكر فيها وأن يكون همنا الأول هو الإنجاز علي المستويات الوطنية كافة، وأول مستوي في نظري يتمثل في كيفية الحيلولة دون أن يغرق الوطن في مستنقع التطرف الديني الذي يمنع أي تقدم علي أي مستوي، وهو أمر عرفته أمم قبلنا عبر حقب طويلة من تاريخها. إن الحكومة والجيش المصري والشرطة في مصر لن يستطيعوا وحدهم مواجهة الظاهرة التي واجهنا مراحل متعاقبة منها في أثناء حياتنا كأفراد.. لأن منا من عاش واعيا المرحلة منذ الأربعينيات إلي الآن، ومنا من عاشها واعيا ـ وأنا منهم ـ منذ مطلع الخمسينيات إلي الآن!

عشنا تأجج الظاهرة وانتشارها وجحافلها وهتافات حناجرها القرآن دستورنا.. والرسول زعيمنا.. والموت في سبيل الله أسمي أمانينا.. ثم عشنا انحسارها واضمحلال جماهيريتها وانصراف الناس عنها وتحولها إلي سبة يحاول من تلتصق به أن يتنصل منها.. ثم كان قدرنا أن نعيش ميلادها الجديد ومصالحة الحاكم معها وعودتها إلي الضوء.. ومرحلة بعد مرحلة بدت وكأنها ملء السمع والبصر وتسد جماهيرها عين الشمس.. وبالتوازي لم تفلت أعيننا أولئك الذين كانوا يطلقون لحاهم ويحلقون شواربهم، وبعضهم كان يتعمم عمامة بيضاء تتدلي منها عزبة طويلة علي قفاه وظهره، ولهم مساجدهم الخاصة ويسميهم العامة السنية، وسمعناهم يطعنون في إيمان وإسلام الآخرين وخاصة من يذهبون للموالد ويتبركون بالأضرحة ويتأولون في النص القرآني ويعتقدون في شفاعة النبي المصطفي صلي الله عليه وآله وسلم.

وعشنا كذلك انبعاث ما سمي الجماعات الإسلامية، وعاصرنا يوما بيوم نموها في الجامعات ومؤتمراتها ولقاءاتها التي كان أولها اللقاء الإسلامي الأول بجامعة عين شمس، تحت رعاية أحمد كمال أبو المجد ردا علي لقاء ناصر الفكري الذي انعقد قبل ذلك بعام ـ1971 ـ إحياء لذكري جمال عبد الناصر، وكان كاتب هذه السطور أحد الذين فكروا فيه وأقاموه واستمروا في عقده حتي ما بعد منتصف السبعينيات، وعانينا ما عانته أمتنا عندما اتجهت تلك الجماعات إلي العنف الدموي الذي كانت خميرته الأولي قد تكونت في أثناء المواجهات في الجامعة بين الطلاب الناصريين والماركسيين، وبين الطلاب المنتمين لتلك الجماعات وتولت جهات في الدولة ومسئولون بأعينهم تمويل وتسليح تلك الجماعات الإسلامية، لتبدأ باستخدام الجنازير والمطاوي وتنتهي باستخدام الرصاص موجها إلي صدر الرجل الأول في مصر رئيس الجمهورية أنور السادات الذي كان هو من حضر العفريت ولم يعرف كيف يتم صرفه! وكان ما كان في أكتوبر1981 وما أعقبه حتي خفتت ظاهرة التأسلم العنيف، ولكن كانت ظاهرة التأسلم الإخواني آخذة في النمو حتي أضحت شريكة في الحكم بما يقارب تسعين مقعدا في البرلمان.. وبقية المشاهد معروفة حتي25 يناير و30 يونيو! كيف إذن نعمل علي كسر هذه الدورة الجهنمية الخطيرة أو نقطع هذا الخط المتعرج الزجزاجي بين قمم صاعدة وقيعان هابطة، وكلاهما الدائرة والخط تعبير عن صعود وهبوط أو تبلور وتفسخ ظاهرة التأسلم السياسي المتطرف، الذي ثبت أنه يهلك الزرع والضرع والنسل! كيف نعمل علي أن نحتفظ للوطن بتاريخه وتراثه وعقائده ووجدانه وضميره، وكلها أمور تؤكد وجود الدين كأحد مكوناتها الرئيسية بغير أن يظهر تجار الدين الذين يقفزون عند أي منعطف ليقولوا إنه ملكهم وإنهم أصحابه وإنهم مفوضو العناية الإلهية للقوامة علي معتقدات الأمة، ولدرجة أن يذهب مرشدهم إلي أن الهجوم علي اعتصامهم أكبر بسبعين مرة عند الله من هدم الكعبة حجرا حجرا؟! كيف نتواصل مع أهلنا في عمق الدلتا وأعالي الصعيد وأطراف الوادي شرقا وغربا، لنتحصن بهم وليحصنونا ضد هؤلاء التجار الذين يكشفون في لحظة واحدة أنهم قتلة محترفون لا يطرف لهم جفن ولا تنفك قسمة واحدة من قسمات وجوههم المتجهمة العابسة المتوعدة!

كيف.. وكيف.. أسئلة بغير حصر لابد من مواجهتها ليس من جانب الحكومة والجيش والشرطة فقط، وإنما بالدرجة الأولي من جانب كل من لديه القدرة علي الفعل الواعي بخطورة الظاهرة.. وللحديث صلة.
                                   
نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 5 ديسمبر 2013

No comments:

Post a Comment