Thursday 7 November 2013

بلي‏..‏ ورب الكعبة




صديقي الأوروبي الذي تنتمي أسرته لإقليم بوهيميا‏، ويعيش منذ مولده في العاصمة النمساوية فيينا‏، له اطلاع واسع علي الشأن الحضاري والثقافي العربي والإسلامي‏، وعلي مجريات الأحداث في البلاد العربية، خاصة التي شهدت ثورات شعبية منذ.2011.

وعبر اهتمامه واطلاعه صارحني متحرجا ومعتذرا مسبقا، فبدا حرجه واعتذاره المسبقان وكأنهما من انعكاس آدابنا ومسلكياتنا الشرقية عليه، وقال: لقد تأملت ما يجري عندكم ووجدت أنكم بالفعل تعيشون زمانكم، لأن تقويمكم الهجري هو بداية الثلث الثاني من القرن الخامس عشر.. بما يماثل أحوال أوروبا في مطلع القرن الخامس عشر الميلادي! وعجبت ـ الضمير سيظل عائدا علي صديقي النمساوي حتي أنبه القارئ إلي تغيير في صاحب الضمير ـ من أنك ـ ويقصدني أنا كاتب هذه السطور ـ ومعك صفوف واسعة من النخبة المصرية والعربية تحاولون التعسف مع هذا الظرف التاريخي بكل مكوناته وتدعون إلي سيادة الأفكار التنويرية والتحديثية المعاصرة، وفي هذا تجن غير عقلاني علي مجتمعكم!

وأضاف صديقي المواطن النمساوي الأوروبي متسائلا: لماذا لا تقبلون بأن حرق المراحل التاريخية والقفز عليها بتجاهل مقوماتها والغفلة عن معطياتها هو جهد ضائع، وأخطر ما يؤدي إليه هو ضياع مضامين تلك الأفكار التنويرية والتحديثية ونفور المجتمع منها، لأن المعلوم تاريخيا هو أن المجتمعات تميل إلي الاستقرار علي ما ارتاحت وسكنت إليه من أفكار وطرق تفكير، حتي وإن ثارت ضد الظلم والاستبداد. قلت لصديقي الأجنبي: زدنا مما أعطاك عقلك!

فمضي الرجل شارحا: لقد فاتكم ـ كنخبة مصرية وعربية ـ أن وصول بعض المجتمعات الأوروبية إلي عصر النهضة والتنوير والحداثة وظهور تجلياته، وأبرزها بقاء الاعتقاد الديني علاقة ذاتية بين الإنسان وخالقه دون وصاية من أحد، وبالتالي الفصل بين الكهنوت ورجال الدين والمرجعيات التي تتصل بالكنيسة وتراثها اللاهوتي وبين مجريات الحياة العامة كان وصولا متصلا بتطورات أخري في العلم والتطبيق العلمي وفي الاقتصاد وفي العلاقات الاجتماعية!، إننا ـ الضمير عائد علي صديقي لم نقفز فجأة من السيطرة الكهنوتية اللاهوتية إلي الدولة المدنية الحديثة لمجرد انتقاد رجال الدين ونقض المرجعيات اللاهوتية، ولكننا عبرنا عقودا طويلة لننتقل من مرحلة الإقطاع والاقتصاد العيني إلي المرحلة البرجوازية والاقتصاد النقدي، ولم يكن التحول بمعزل عن ثورات اجتماعية سياسية وأخري علمية وتقنية وثالثة فلسفية وفكرية.. وخضنا حروبا دينية طويلة وحروبا أخري ضارية حول المجالات الحيوية ومناطق النفوذ وتصادم المصالح والأدوار، وواجه روادنا الطبيعة فذهبوا إلي ما وراء البحار وداروا حول الأرض، واكتشفوا قارات لم تكن معروفة لنا من قبل.. إلي آخر ما عاشته أوروبا من تحولات هائلة عبر عصرها الحديث الممتد من القرن الخامس عشر إلي القرن العشرين!

واستطرد صديقي: إن مجتمعكم في مرحلة تاريخية، يمثل الإخوان المسلمون والسلفيون ومن لهم مرجعياتهم نفسها بمن في ذلك الزاعمون بأنهم صوت التنوير والحداثة الإسلامية وهم معروفون، أصدق تعبير سياسي وثقافي عن تلك المرحلة التي درج البعض علي أن يصفها بالتخلف.. لأنها مرحلة تشيع فيها وبقوة منظومات فكرية وقيمية تنتسب حقا للعصور الوسطي الأوروبية وحتي مطلع وربما منتصف القرن السادس عشر!.. وبدأ صاحبي الأوروبي النمساوي يسألني أسئلة تقريرية من قبيل ألستم تعيشون في مجتمع يؤمن بالخرافة التي هي أمر آخر غير الغيبيات الإيمانية، ويؤمن بالتواكل وهو غير التوكل ولا ينتصر لقيم العمل والإنتاج والتنظيم والنظافة واحترام المال العام واحترام مكانة ودور المرأة ولا يعترف للآخر المختلف دينيا، بل وحتي مذهبيا بحقوق مماثلة لمن ينظرون لأنفسهم علي أنهم الأغلبية، بل ويعمل علي مصادرته والاعتداء علي دور عبادته وممتلكاته.. أوليست الرشاوي العينية والنقدية هي أبرز عامل يحسم الانتخابات، ويقوم بها من يتصدرون المشهد باعتبارهم تجسيدا للإسلام بعقيدته وشرعيته، يعني رجال دين مثل كهنوت أوروبا العصور الوسطي بطريقة أو أخري؟!

واستمر صاحبي في سرد أسئلته التقريرية حتي وصل إلي أن تساءل مقررا: أليست الرموز التي تصورتهم أنها فتح مبين في سيرة الدعوة الإسلامية خاصة والحياة الثقافية بوجه عام، هي من يقود الآن حملات ضرب وتقويض دور جيشكم الوطني وتشويه تاريخه، وتقود معارك التشكيك في عقائد الآخرين، وفي اتهام المسيحيين بأنهم يتآمرون علي الوطن، بل وفي توجيه تهم العمالة لأجهزة الأمن لكل من يخالفهم الرأي أو يسعي لكشف تهافت دعاواهم، التي ثبت أنها مزيفة وأنها لا تختلف في جوهرها عن دعاوي قيادات لتكوينات السلفية والجهادية وغيرها؟

قلت من جانبي: بلي.. ورب الكعبة إن عندنا ما تتساءل عنه وأكثر!

قال صاحبي الأجنبي: إذن لماذا استكثرتم علي الإخوان المسلمين أن يكونوا التعبير السلطوي الحاكم عن هذا التخلف الضارب في كل مكان؟!
                              
نشرت في جريدة الأهرام بتاريخ 7 نوفمبر 2013

No comments:

Post a Comment